الفتوى بغير علم
جاءت رسالة الإسلام لتكون رسالة الله الخاتمة للناس أجمعين. وقد تولّى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حمل وتبليغ هذه الرسالة بأمانه حتى وافته المنية. وأتى القرآن بالأحكام التشريعية وفصلتها السنة النبوية لتشكل أساسا يتبعه المسلمين في جميع شؤون حياتهم. وحمل العلماء والمفتيين أمانة التبليغ بدين الله لتوعية الناس وارشادهم لطريق الحق. وكلما زاد عدد المسلمين ازدادت الحاجة للفهم والسؤال عن أمور وأحكام الدين. ومن هنا نعرف أهمية الفتوى. حيث يقول الإمام النووي -رحمه الله-: “اعْلَم أَن الْإِفْتَاء عَظِيم الْخطر كَبِير الْموقع كثير الْفضل لِأَن الْمُفْتِي وَارِث الْأَنْبِيَاء صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم وقائم بِفَرْض الْكِفَايَة لكنه معرض للخطأ، وَلِهَذَا قَالُوا الْمُفْتِي موقّع عَن الله تَعَالَى”.
مفهوم الفتاوى:
الفتوى في اللغة: اسم، وجمعها فَتَاوٍ وفَتَاوِي وفَتَاوَى. والفعل: أفتى يُفتي، وأَفْتِ، وإفتاءً، فهو مُفتٍ. والمفعول منه مُفتىً، ويقال: أفتى في المسألة، أي: بيّنها وأرشد سائلها بالحكم الصحيح. وأفَتَى في المنام، أي: عبّر الرؤيا وفسّرها. كذلك ويقصد بالفتوى: الجوابُ عمّا يُشْكِلُ من مسائل في علوم الشرع أو القانون. ويسمّى مكان المفتي بدار الفتوى، فهي مقرّه ومكان عمله.
الفتوى في اصطلاح أهل العلم هي: الكشف المفتي عن الحكم الشرعي للمستفتي. كما وتكون الفتوى بغير سؤال لبيان حكم نازلة من النوازل. وفي النهاية فإن حادثة من الحوادث المستجدّة بهدف تصحيح أقوال الناس وأفعالهم وسائر أحوالهم. ويسمّى القائم على الإفتاء بالمفتي. وذلك لأنّه عالمٌ بالأحكام الشرعية والمستجدّات. وقد آتى الله المفتي من العلم لاستنباط الحكم الشرعي من أدلته. وكما يُسقط المفتي على الحال المستفتي فيه، لذلك تعدّ الفتوى أمراً عظيماً وشأنها كبير. فهي توقيع عن رب العالمين، وبيان لمراده -سبحانه وتعالى- من أحكام التشريع.
حكم الفتوى بغير علم:
الفتوى بغير علم حرام، فمن أقدم على الإفتاء بغير علم آثم. وكذلك إن أصر المفتي على الفتوى بغير علم واستمر، فهو فاسق ولا يحل قبول قضاؤه أو فتواه. فالمفتي بغير علم كالأعمى الذي لا يقلد البصير فيما يعتبر له البصر، لأنه بفقد البصر لا يعرف الصواب وضده.
والمفتي الجاهل يستحق الحجر عليه. بمنعه من الإفتاء فكما قال ربيعة بن عبد الرحمن (ربيعةُ الرأي): ولَبعضُ من يفتي ها هنا أحق بالسجن من السراق. وكما قال ابن الجوزي: يلزم وليَّ الأمر منعهم، كما فعل بنو أمية، وقد أطلق بعض الفقهاء على المفتي الجاهل اسمَ: (المفتي الماجن)؛ لتجرؤه على الإفتاء مع جهله.
ومن أدلة حرمة الإفتاء والفتوى بغير علم:
فقال تعالى : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) الأعراف/33.
بينما معنى الآية: من زاغ في فتواه، فقال في الحرام: هذا حلال، أو قال في الحلال: هذا حرام، أو نحو ذلك.
قول النبي صلى الله عليه وسلم: *«مَنْ أُفْتِيَ بِفُتْيَا غَيْرَ ثَبْتٍ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِي أَفْتَاهُ» رواه الإمام أحمد وابن ماجه.
وفي لفظ: «مَنْ أُفْتِيَ بِفُتْيَا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُ ذَلِكَ عَلَى الَّذِي أَفْتَاهُ» رواه أحمد وأبو داود.
وقوله: «مَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَعَنَتْهُ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ وَمَلَائِكَةُ الْأَرْضِ» ذكره ابن الجوزي في تعظيم الفتوى.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتُوا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»، حديث حسن.
فقال تعالى : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) الأعراف/33.
فرتب المحرمات أربع مراتب وذكر ما هو أشد تحريما. وهو القول عليه بلا علم وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه.
أسباب خطورة الإفتاء بغير علم:
أولًا: حقيقة الإفتاء بغير علم:
الإفتاء هو إخبار عن الله تعالى لخلقه والإفتاء بغير علم هو كذب على الله ورسوله.
قال الخطيب البغدادي : أنا أبو القاسم الأزهري. وأبو يعلى: أحمد بن عبد الواحد الوكيل. قالا: أنا محمد بن جعفر التميمي الكوفي , أنا ابن الأنباري. قال: حدثني محمد بن المرزباني , نا أحمد بن الصقر الكتاني. قال ابن المقفع: “من أنِف من قول: (لا أدري) تكلَّف الكذبَ”. وكما روى ابن الصلاح عن محمد بن المنكدر، قال: “إن العالِم بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم”
ثانيًا: آليات الإفتاء:
يمر الإفتاء بمراحل عدة حتى تنتج فتوى مؤهله بالضوابط الشرعية. علاوة على ذلك فالمفتي إما مجتهد وإما ناقل، وكذلك فالمفتي المجتهد أمين في نقله عن الله ورسوله. والمفتي الناقل أمين في النقل عن صاحب المذهب الذي يفتي به. ويتحمل المفتي أمانتين وهما:
أمانة النقل:
وهي إحدى الركائز الأساسية التي أرساها المنهج العلمي الإسلامي في بنائه للعقلية العلمية الإسلامية، وأمانة الفهم. وقال عَبْد اللهِ بْن الْمُبَارَكِ: “الْإِسْنَادُ مِنَ الدِّينِ، وَلَوْلَا الْإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ”. وصاغ علماء البحث والمناظرة قاعدة أصيلة. وكذلك يعبر شقها الأول عن أمانة النقل، فقالوا: “إن كنت ناقلًا فالصحة، وإن كنت مدعيًا فالدليل”.
أمانة الفهم:
المفتي أمين في فهمه لنصوص الشرع الشريف ومصادره قطعية أو ظنية الدلالة. بناء على ذلك فقطعي الدلالة من النصوص واضح الحكم. وكما ظني الدلالة يقبل أن تختلف فيه الأفهام بحسب تعدد المعاني التي يحتملها النص أو المصدر. بينما تظهر ضرورة أمانة الفهم، إذ يطالَب المفتي المجتهد باستفراغ الوسع في النظر والتأمل، والتدقيق، وكذلك الجمع بين المتماثلات، والتفرقة بين المتخالفات، والترجيح عند التعارض. وغير ذلك مما فتقر إليه الفهم السليم الذي ينتج الحكم الصحيح.
وأما المفتي الناقل فليس هو عن أمانة الفهم ببعيد. لأنه مطالَب بالفهم الدقيق للمذهب الذي ينقله وما يتبعه من القيود والشروط. وغيرها مما تجب معرفته ليتحقق النقل السليم للمذهب كما عناه صاحبه.
ثالثًا: آثار الإفتاء ونتائجه:
عموم خطر الإفتاء:
خطر الإفتاء يتعدا المستفتيين ومن الممكن أن يؤثر على المجتمعات كاملة:
خطر الإفتاء على مستوى الأفراد:
فالفتوى في العبادات ترسم للمفتي أمور عباداته والواجبات والمحظورات التي من الازم اجتنابها ليحافظ المسلم على علاقته بربه. والفتوى في الحقوق المالية تؤخذ بها الأموال وتعطى للمستحقين. بينما فتوى المفتي في الأحوال الشخصية تستباح بها الفروج. وفي النهاية ارتفعت على أساسها العلاقات الوثيقة بين أفرادها. وتكون الفتوى في الجنايات ونحوها يُقضى بها على الأبدان والأرواح. التي حكمت الفتوى بنسبتها إلى العدوان الذي يستحق بسببه المعتدي أن يوقع عليه العقاب.
وكما قال ابن الصلاح: الاقتصار على (لا) أو (نعم) لا يليق بغير العامة. وإنما يحسن بالمفتي الاختصار الذي لا يخل بالبيان المشترط عليه دون ما يخل به. فلا يدع المفتي إطالة لا يحصل البيان بدونها.
ولا يخفى أن الفتوى في كل مجال من هذه المجالات إن لم تنضبط بالضوابط الشرعية. يترتب عليها من الفساد والخلل في حياة الأفراد ما لا يعلم مداه إلا الله تعالى.
خطر الإفتاء في المجتمع:
فكم من فتوى آثمة مضللة دفعت بعض الحمقى إلى العدوان على الآخرين على نحو يهدد أمن المجتمع واستقرار الأوضاع فيه.
خطر الإفتاء في الأمة:
إن خطر الإفتاء يتعدى المجتمع الواحد ليشمل الأمة بأسرها. على سبيل المثال فالفتوى الآثمة المضللة ربما أدت إلى بذر بذور الفرقة والشحناء بين المجتمعات. وكذلك تكون ثمرتها الخبيثة: إشعال نار الفتنة العمياء التي تفرق بين أقطار العالم الإسلامي. كما وتؤجج نيران الكراهية بين بعض شعوب الأمة الواحدة.
خطر الإفتاء على مستوى المجتمع الإنساني:
ينال خطر الإتاء بغير علم من علاقة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم. كما على النحو ربما أدار رحى الحرب بين بعض بلاد الإسلام وبعض بلاد غير المسلمين.
ومما سبق يعلم أن الفتوى إن لم تصدر من أهلها. وتقع في محلها يترتب عليها من الشر والفساد والخلل في حياة الأفراد والأمم ما لا يعلم مداه إلا الله تعالى.